الثواني تجر الدقائق إلى الساعات !

تمر اللحظات ثم تأتي الثواني تجر الدقائق إلى الساعات ، ثم يأتي اليوم يُسلِمَ نفسه إلى شهر حتى يقضي على العام ويعدمه، و ينقضي العمر هكذا وتُطوى ذكرياته الجميلة بين الأنين والآهات كسكران غَيب عقله الخمر فأصبح لا يُفرق بين حلو الحياة ومرها، لا يعرف ولا يدري أتمر أيامه متصلة أم متقطعة أوصالها تجر أحشاء كل شيء جميل ، وتحبو كطفل بُترت ساقاه فأعاقته عن السير، ويبكي دون انهمار الدمع لأن العين قد أصابها الجفاف ، بعدما كان يحنو عليه الحنان ويحميه من أذى الدنيا وحر البشر، فأراد أن يُداوي جروح القلب بخمر لكنه زاده عطناً، كما يفعل بريق الدنيا بأهلها يُغير سرائرها وعلانيتها بكذبة يعيش عليها بني آدم ويموت دون أن يعرف ماهيتها ، قد أصبح الرجال دون نخوة ولا صلابة ولا ود وقلوبهم وعقولهم  أصبحت فارغة من محتواها الأصيل كخيال يضعه الفلاح يُخيف به الطيور ، حتى الأم ليست كما الأمس بعدما أصبحت المُربيات هن الخادمات ، كل شيء تبدل وتغير فأخذتني قدمي وسرت في الطرقات التي كنت بالأمس معها أعرض عليها أشعاري وكتاباتي وتسمعني ، وجدتها اليوم لا تعرفني ، فسلمت على الأشجار التي تُزين جوانبه فلم ترد وتجاهلتني ، غضبت من ذلك فقلت لنفسي قد يكون صوتي خافتا ولم تسمعني ، فكررت مرارا سلامي وتحياتي وحبي وأشواقي فلم تجبني ، قلت عسى أن يكون شيء قد أشغل الأشجار عني ، فهممت إليها كي ألمس غصونها وأداعبها  وأجلس تحت ظلها كما كنت أجلس وأحكي لها الهموم والأحزان وتُسر كل أسراري، وجدت شوكة قد غاصت في يدي فأسرعت خائفا من دم سال على ملابسي ، وضمدت جرحي وعُدت من حيث أتيت ، فقلت لا بد أن يكون هناك شيء ما لا أعرفه ، لماذا أصبحت الدنيا هكذا ليس فيها لأي شيء طعم ولا لون ولا حتى فيها حياة كل شيء مريض مُتهالك ؟ بدأت أقارن اليوم بالأمس إن عقول اليوم ليس  كالأمس، والزرع أصبح ذا وجهين منافقا كالبشر خارجه أخضر اللون صافيا لكن قلبه يملؤه كل سوء وسموم ، حتى الورد الذي كان رمزا للحب والوفاء والغيرة بألوانه الجميلة قد تعلم مراوغة البشر يجذبك جماله فتدنو إليه  فتجده كاذبا ليس له رائحة ، مع كل هذا الفرق زادت حيرتي وانتفضت أركاني فعرفت أن شيئاً ما قد حدث ، فكذبت نفسي واستعذت من الشيطان الذي هذه عادته يُريد أن يُربك أفكاري ويُبعثر أوراقي، وغفوت غفوة المُرهق من عناء السفر لكن كابوسا ما أمهلني وأيقظني بعدما رأيت فيه شيئاً يحمله أربعة على الأكتاف  يتبعه أناس كُثر في مشهد مُذهل كما في يوم نفير الحجاج ، ففزعت أنظر عن يميني ويساري والى الخلف والأمام فلم أجد شيئا سوى جسدي المُنهك مُلقى على الأرض مُتهالك الأطراف ، ثم عُدتُ إلى نومي فجاء مناد يناديني قُم ألا تفهم ما الذي حدث ، لقد ذهبت من كُنت تُكرم من أجلها ، راحت من كان دُعاؤها يحفظك من صدمات الدنيا وحقدها ، صرخت بأعلى صوتي وقُلت أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، فرد قلبي نابضا بكل حُزن إنها الحقيقة المرة إنها ماتت ثم سكت ولم يُكمل ، فقلت من هي التي ماتت ؟ قال حياتك قد انتهت ، قلت كيف وأنت مازلت تحدثني ؟ فبكى قائلا نبضي بعد ذلك لم تشعر به من كان يزينه ويجعله حلوا قد رحل ، قُلت هل تقصد أمي قال نعم قد ماتت أمك وانتقلت للرفيق الأعلى ، ماتت مصدر بسمتك التي تحلو بها الأيام وتزقزق الطيور على الأغصان بالحب ، رحلت وتركتنا في أرض جدباء ينبت فيها فقط الحنظل والحقد والكذب والخداع ، ذهبت من كنت ترى بأعينها كل الحياة جميلة ، عندها بكيت وسال الدمع على خدي وقُلت من أجل ذلك تخلى عني الطريق والأشجار والورد وكل شيء أعرفه ، كيف أعيش أياما طوالا بعد ذلك  بدونك يا أمي؟ كيف أتحمل صورة يحمل فيها الابن هدية لأمه ؟ في يوم يُقال له عيد الأم تُقدم  فيه الهدايا ويسعدوا ببسمة ونظرة حب ومن بعدها حضن جميلا تتمناه كل نفس وتسعد ، وقولة جميلة أخرى كل عام وأنت بخير يا أمي وردا أعظم منه كله حب وسعادة ورحمة الأم وأنت كذلك يا أبني ، يا لها من لحظات رائعة كروعة لحن يشدوه الطير فوق أغصان الشجر وعلى نوافذ العشاق، أما أنا فقد شاء القدر أن يحرمني من قولة أمي وتقبيل يديها وقُبلة الجبين منها ، إنها الحقيقة المرة التي لا يُمكن إخفاؤها ويكفيني أن أذهب إلى قبرك وأحضنه  أوصيه أن يرأف بك ولا يضيق عليك جدرانه  لكن القُبلة كيف آخذها ؟ رُحماك ربي بعبدك الضعيف وأسألك الصبر، كما أسألك أن تجعل قبرها روضة من رياض الجنان، هذا القبر الذي احسده على أنه يضمك في حضنه وهنيئا له ذلك، أمي لن أخذل أيامك كلها في يوم واحد الذي أطلقوا عليه عيد الأم لأن هذا إجحاف وظلم  لمسيرة ووضع الأم ، لن أنساك أبدا وسوف أهنئك في كل شهيقي وزفيري كذلك كلما تنفس الصبح وأشرقت الشمس حتى إذا أسدل الليل ستائره السوداء ، مع أن الفراق يؤلمني جرحه لكن ما يُصبرني إنك بجوار الرحمن، وحبك الذي أعيش بنوره يعينني على الغربة التي لم أسلم من حقدها بعدما أبعدتني عن قبرك الذي كنت أحضنه وأذهب إليه جالسا جواره أحكي همومي كأنك تسمعين حديثي، أمي كل عام وأنت في قلبي حتى نلتقي ، يا دما يجري في عروقي ، رحمك الله رحمة واسعة وأسكنك فسيح جناته ، وجمعني بك في مستقر رحمته !
محمد كامل العيادي
Alayadi_2100@yahoo.com

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كم احتجت إليك اليوم يا أمي

أغار عليك!

يا الله رفعت اليك يدي !!!