مرأة عجوز!



كنت أسير في إحدى الطرق الداخلية في محافظة القاهرة مُقلا سيارة ميكروباص ويتميز سائقي هذه السيارات بالذكاء في اختصار الوقت بأنهم يسلكون طرق جانبية للوصول إلى مبتغاهم بسرعة، ونحن كذلك نتابع من نافذة السيارة العمائر والفلل والمباني المرتفعة والناس تسير على جنبات الطرق وضجيج السيارات بوسائل التنبيه التي لا يتوانون عنها أبدا وهذا بالنسبة لي هواية أعشقها في المواصلات الداخلية داخل القاهرة، ولدي رغبة عارمة بالاستمتاع بهذه المشاهد ومخالطة الناس والتقرب اليهم وأشعر بهم وأحس معهم بهذه البهجة الجميلة ، وأسمع منهم ويسمعوا مني بنقاش جميل طيلة وقت الطريق وفي احدى الشوارع وقفت السيارة بشارع تجلس على ناصيته امرأة عجوز فجذبت أنظار الركاب إليها وشد انتباههم لكبر سنها وهرمها، فتجاوبت معي في هذا الموقف أنا وامرأة كانت تركب في المقعد الذي أمامي فقمت بفتح نافذة السيارة وبدأت أنادي على المرأة العجوز حتى أعطيها مما أعطاني الله عند ذلك قالت لي احدى الراكبات التي شدها الموقف فأعطتني مبلغ من المال لأعطيهم لتلك العجوز ولكن كان صعب الوصول إليها لعدم استطاعتي النزول لأنني كنت في المقعد الأخير وكذلك كان من الصعب على تلك العجوز الوصول إلينا لعدم قدرتها على النهوض من مكانها، فأضررت إلقاء المبلغ وكنت متأسف لذلك الموقف لكنني أضررت على ذلك الفعلة كي أضمن الأجر خوفا من تحرك السيارة وتحول بيني وبينها فأخذت قرار بإلقاء المبلغ وياليت وصل إليها لكن للأسف ذهب بعيدا عنها فتطوع أحد الركاب بالنزول إليها وأخذ المبلغ من الأرض وإعطاءه إليها، هنا لاحظنا شيء عجيب لفت انتباهي وانتباه من يتابع الموقف وإصرار العجوز أن تعطينا علبة مناديل مقابل المبلغ الذي تستحقه فقط وردت الباقي ومع إصرارنا وتوسلنا إليها كي تأخذ المبلغ إلا أنها رفضت وهددتنا بانها ستترك المبلغ ولن تأخذه إذا أصررنا على رأينا باعتبارها صدقة، فأشفقنا عليها وأخذنا علبة المناديل وردت لنا الباقي ولم تأخذ إلا المبلغ الذي هو سعر المناديل وقالت بكل ثقة ورضا بما قسمه الله لها الحمد لله، فبكيت من قلبي وكذلك بكت المرأة التي كانت معنا ودموعها التي ظللت أتابعها وهي تسيل من عينيها بغزارة على هذا الموقف الذي تعلمنا منه درس كبير من تلك المرأة الثمانينية من عمرها وكان فيه رسالة لنا جميعا، فقلت وصوتي لا يكاد أن يخرج من العجب والدهشة أرأيتم عزة النفس التي تتمتع بها هذه العجوز تلك الخصلة الحميدة التي افتقدناها وافتقدها كثيرا من الناس ومنهم أصحاب أطيان ومال وعقارات ومنهم من يريد أن يزيد ما عنده حتى لو تنازل على أثره على مبادئ كثيرة فلا يعنيه أي شيء سوى مليء وعاءه وعينه الفارغة التي لا تملأها إلا التراب، حقيقة قد افتقدنا كثيرا مما تملكه هذه العجوز، افتقدنا الحب، الإخلاص، الوفاء، حب الذات واحترامها، القناعة بكل ما تعنيه.
 إن هذه العجوز كل ما يعنيها هو قوت يومها بل كل وقت بوقته لا يعنيها الغد أبدا لأنه ليس ملكها ولا تريده أصلا، هذه المرأة التي تجلس يوما طويلا في البرد أحيانا وفي الشمس أحيانا أخرى حتى تبيع بعشر جنيهات أو أقل لتسد رمقها، وكلنا يعلم أن هذا المبلغ لا يكفي ولد صغير في بيوتنا في جزء من اليوم، ليتنا نتعلم وليت كل من ينهب أو يسرق أو يغش أن يتعظ ويرعوى ويعلم أنه سيسأل عن ماله مم اكتسبه وفيما أنفقه،  شكرا أيتها العجوز واسأل الله أن يبقيك على ظهر الدنيا بصحة جيدة لأن وجودك رحمة من الله لنا وبأمثالك تتنزل الرحمات علينا وبركاته، ونرجو الله أن يهدينا ويبصرنا طريق الحق وأن يجعلنا نعتز بأنفسنا كهذه العجوز.
محمد كامل العيادي
Alayadi_2100@yahoo.com

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كم احتجت إليك اليوم يا أمي

أغار عليك!

يا الله رفعت اليك يدي !!!