سوبر ماركت



العمر يجده الناس أغلى ما يملكونه في هذه الدنيا ؛فلا بد من المحافظة عليه؛ كي يعيشون بطمأنينة وسكينه ، فالعمر ليس من السهل إهداره، فهو مكتوب ومحسوب لكل إنسان منذ خلقه؛ وخروجه من بطن أمه باكيا وكأنما يعلم ما في الدنيا من متاعب ومصاعب تؤثر فيه  وتنغص حياته ؛ أو العكس تريحه وتسعده بتبسمها له؛ وفتح كل الأبواب في وجهه؛ فهكذا الدنيا تكون سعادة وسرور أو تعاسة وأحزان ؛ ريثما ولو أكملت الدنيا فصولها بغربة عن الأوطان ؛وهجر الأقارب والأحباب ؛ وتضيع معها الذكريات إن كانت جميلة أو مُرة ؛وتتبعثر أوراقا رسمت عليها أماني وآمال ؛ مبتلة بأعاصير الغربة مدمرة كل شيء ؛ اسوداد الشعر ونضارة الوجه واشراقة الشباب ؛وروح الحب والسعادة وكل شيء جميل؛ فالأعاصير لا ترحم أحدا وقف أمامها ؛ فالإنسان دائما يريد أن يغير حاله من الأسوأ إلى  الأحسن ؛فلا يوجد اختيار عنده خاصة إذا سُدت الأبواب كلها في وجهه في موطنه فلا شيء إلا الغربة يجربها كي يسعد كما الحال للكثير ؛  معتمدا على ذاته ويفخر أمام أولاده بأنه صنع نفسه بنفسه؛ ويستفيد من الأسفار ففيها خمس فوائد كما قال الشافعي
تغرب عن الأوطان في طلب العلا  ........ وسافر ففي الأسفار خمس فوائد
تفرج هم واكتساب معيشة ........... وعلم وآداب وصحبة ماجد
مع إنني كنت أعارض فكرة الغربة أصلا وان كان لابد من الغربة فلا تزيد المدة عن خمس سنوات  قائلاً ما نبذله بالغربة ممكن نعطيه لبلدنا ؛ ولكنني وجدتُ الأمر مستحيل ؛ لأي شاب يريد أن يختصر المتاعب بسنين عدة تذهب بسرعة البرق ؛ وجربت الفكرة وبدأت سنين الغربة معي أيامها؛ بعدما كنت أقول كيف اترك أرضا تربيت عليها ؛ كيف أرى نفسي عن شكل الأشجار التي زرعتها يدي ، وأرويها كل يوم وأنا أحسها تبتسم لي وتبادلني الحب ، كيف استطيع الاستغناء عن أهل شارعي وأنا كل يوم أراهم ونصلي سوياً في مسجدنا ، ولكني وجدت الحياة أصعب بالتزاماتها التي لا تنتهي في ظل غلاء فاحش ومطالب كثيرة ؛ فقلت لنفسي استفد من الأسفار ولكن لا تزيد المدة عن خمس سنوات بوضع هدف وإنهاءه ، فوجدت نفسي تمر بي السنون ونسيت  معها الهدف ونسيت كل شيء ، وأدمنت السفر والغربة ، ووجدت نفسي بغربة في وطني الأصلي  عندما أعود إليه في الأجازات ، وبدأت أسوف عودتي وأخذ القرار الصعب من وجهة نظري بتوجيه اسأله لا معنى لها لنفس ، ما مصير الأولاد . وكيف تكون المعيشة هناك. وأي مشروع استطيع أن افعله كي أعيش عيشه كريمة . وهل الذي جمعته في هذه السنون سيكفي ؟ اسأله كثيرة جاءت بخاطري وأحسست بجبني أمام نفسي . فسألت نفسي ماذا لو شاء الله وقبضت روحي هنا ؟ هل سيبقى أولادي هنا ؟ أم سيغادرون إلى المجهول الذي سينتظرهم من غيري والذي سيكون اقل بكثير لو واجهته معهم . وماذا عن أصدقائي الذي انقطع اتصالي بهم وأقاربي الذي يرحل عن دنيانا واحد تلو الأخر . والمتبقي منهم هل سأشعر بهم وبحبهم وأهلية أولادي لهم أم سنشعر جميعا بالغربة عن بعضنا البعض ، فقلت لا بد من لملمة الأوراق المبعثرة بعد أن وصل الحال الى هذا فكما قال الشافعي
إن الغريب له مخافة سارق........  وخضوع مديون وذلة موثق
فإذا تذكر أهله وبلاده......... ففؤاده كجناح طير خانق
فالخلاص من قيد الغربة صعب وشباكه التي التفت حولي وجعلتني سجينها ، كيف التخلص منها والتحرر كي أعيش طليقاً في بلدي بين ناسي وأهلي وأحبابي ، خاصة بعدما رأيت بعض أصدقائي معي في الغربة وقد انتهت حياتهم بمرضاً عضال ، ومنهم من قضى نحبه وترك اولاده يواجهون الحياة المجهولة ، وأيضا منهم من كدس أمواله في البنوك وشراء العقارات وحرم نفسه الاستمتاع بما جمعه ، وذهب عند الدنيا وترك غيره يستمتع به ، ونسي بأنه سيحاسب عليه أمام الله ، سيحاسب على ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه ،و بعدما وجدت بأن المال ليس كل شيء ، خاصة بأنني وجدت ما جمعناه في سنوات طوال لا يصلح أصلا لإقامة سوبر ماركت ، فهل بعد هذه الغربة كلها نخرج بسوبر ماركت ؟ فلابد من العودة والاستمتاع بما تبقى بين أهلي أشاطرهم أحزانهم وأشاركهم أفراحهم نشبع إذا شبعوا ونساعدهم إذا احتاجوا ، اجلس على ضفاف النيل لأرى الفلاح البسيط يزرع في أرضه ويشرب من القُلة الفخار التي بجانبه ، وأتعلم منه معنى القناعة ، فقلت لابد من الانتهاء من الفائدة السادسة التي قمت بإضافتها بطريقة غير شرعية وهو الخوف من الرجوع إلى الوطن . وكما قال الجاحظ
"الغريب كالغرْس زايل أرضه، وفقد شربه، فهو ذاو لا يثمر، وذو بقل لا ينضر" ومهما كنا في رغد فلا معنى له في الغربة كما قال الوافر
لقرب الدار في الإقتار خير ... من العيش الموسع في اغتراب...
فالانصراف لابد منه إلى الأصدقاء والأحباب كما قال جبران خليل جبران في أبياته
هوَذا الفَجرُ فَقُومي نَنصَرِف عَن دِيارٍ ما لَنا فيها صَديق

ما عَسى يَرجو نَباتٌ يختلف زَهرُه عَن كُلِّ وردٍ وَشَقيق

وَجَديدُ القَلبِ أَنّى يَأتَلف مع قُلوب كُلُّ ما فيها عَتيق

هوَذا الصُّبحُ يُنادي فَاِسمَعي وَهَلمّي نَقتَفي خُطواته

قَد كَفانا مِن مَساء يَدّعي أَنّ نُورَ الصُّبحِ مِن آياتِهِ... ِ

محمد العيادي
Alayadi_2100@yahoo.com




تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كم احتجت إليك اليوم يا أمي

أغار عليك!

يا الله رفعت اليك يدي !!!